لا شك بأننا سعيدين بما أحدثه و
يحدثه الربيع العربي من تحولات في أوساط الشعوب العربية، وما غيره في العقول عامة
عن صورة الفرد العربي المعاصرة السابقة لهذه الثورات في الذهنية الإنسانية، و التي
اتصفت بالسلبية والهامشية واتصف صاحبها بالطاقة الخامدة غير الفاعلة في محيطه
المحلي والعالمي، هذه الصورة كانت تجثم على أدمغتنا وتقبع في مخزوننا المعرفي
كمسلمات، هذا المخزون الذي نستمد منه الفكرة التي نركب عليها مفردات حديثنا حين
نريد أن نعبر أو ننظّر لحالة بعينها، ولك حينها أن تدرك ما نوع المفردات التي كنا
نستخدمها لوصف المواطن العربي وصورته المعاصرة الدميمة. كما أسلفت جاء الربيع
العربي مشكوراً ليقلب هذه الصورة رأساً على عقب، و ليخبرنا بأن المواطن العربي
يكترث، نعم... يكترث لكرامته، يكترث لدرجة إنسانيته، لحقوقه و لصورته أمام
االعالم. يكترث للدرجة التي يقف عليها بين الأمم
على سلم الحضارة والتمدن. لقد أبهرنا المواطن العربي في مستوى تنسيقه وصبره
ووعيه وحبه الشديد للحياة الكريمة وبغضه الأشد للعنف والدم والقتل ، أبهرنا في
درجة إلتزامه بالسلمية والإيجابية حتى وهو يثور. أبهرنا بسمو إيمانه ومقته الشديد
للطائفية وحرصه الأشد على المواطنة وحماية مفهومها في مجتمعه. أبهرنا بدرجة رقي
تعامله مع الأنثى وكيف كان يحترم مشاركتها له كند في الحقوق الإنسانية و حرصه على
عدم إيذائها أو التحرش بها تحرش يوقعه في مرتبة الغرائزية الحيوانية في الوقت الذي يطالب فيه بالاعتراف بإنسانيته.
هذه الصورة المشرقة للعربي لم تبهره
هو فقط، بل أبهرت العالم أجمع، فالكل تابع ثورة الياسمين في تونس والكل عرف اين
يقع ميدان التحرير على كوكبنا الأزرق، بل أصبح بعدها مزاراً للسياح عاشقي الحرية
كي يلتقطوا فيه الصور التذكارية، والجميع ابهرته الملايين التي كانت تخرج في اليمن
والتي أثبتت بكل سلمية و بكل إصرار وعناد دون كلل أو ملل ومن كلا الجنسين بأنها
حفيدة حضارة عريقة دامت في تلك المنطقة لقرون عبر التاريخ ، لتنادي بعناوين متحضرة
راقية، عناد سلمي استمر لأشهر طويلة نالت بعدها بداية الخطوات في تحقيق مطالبها،
رغم أن الغالبية كانت تراهن بأن ثورة اليمن ستتحول قريباً إلى معارك أهلية واقتتال
داخلي قبلي و طائفي، لانخفاض مستوى التعليم هناك ولكثرة انتشار قطع السلاح بدرجة
تفوق عدد السكان بثلاثة أضعاف، ولتمكن المفاهيم القبلية من مجتمعه.
لكن ثمة دائماً من يبحث عن جلد الذات
المستمر ويستكثر على نفسه أي صورة إيجابية مشرفة وللأسف، سببه في ذلك أن صاحب الصورة المشرقة لم يتبنى
شعارات وأدبيات المنهج الذي يعتنقه هو، فتراه يحاول تفسير كا ما حدث حسب نظرية
المؤامرة، وأن هذه الصورة البهية ورائها أهداف خبيثة وهذا الخير ورائه كم هائل من
الشر، فيثبت بذلك لنفسه و للمهزومين أمثاله أن الصورة السلبية التي تبناها العالم
سابقاً عن المواطن العربي لم تتغير فهو مازال فرد لا يفكر، يسير في قطيع كبير
انساق وراء هتافات مزيفة لقادة مجهولين عملوا بالخفاء لإمداد هذه الثورة بكل ما
يساعد على إنجاحها من أدوات وأجهزة إتصال وتوثيق، ومواقع تواصل وقنوات تلفزيونية
محترفة زرعت لهذا الغرض، كما حرص هؤلاء القادة المجهولين والذين تحركهم أصابع
خارجية على أن تتحلى هذه الثورات بدرجات عالية من النبل والشرف في أخلاقياتها كي
تجلب إليها أكبر عدد ممكن من أفراد الشعوب مع اختلاف مكوناتهم وخلفياتهم
الأيدولوجية والفكرية، هدف هذه "الآلهة" الخارجية هو الوصول إلى نقطة
إضعاف للأنظمة أكثر من ضعفها الحالي وإضعاف جيوشها وتشتيت الصف الداخلي وضعضعته
بالشكل الذي يوصلنا إلى فوضى داخلية تسوقنا إلى دولة ضعيفة ساقطة اقتصادياً فاشلة
بكل المعايير، فيسهل بعد ذلك تفكيكها وتقسيمها وهو ما تلوح بوادره في ليبيا
برأيهم، يبررون ذلك بموقف قطر المبهم والمستعصي على الفهم، حيث ان نظامها هو إحدى
الأنظمة التي عينت من المستعمر السابق حسب رأيهم مثله مثل باقي الأنظمة العربية
التي تدعم قطر ثورة شعوبها عليها لهذا السبب، و تسائلهم بأن هذا الموقف القطري
المناصر بشدة للإخوان وللثورات العربية وإصراره على إنجاحها عبر استضافته لرموزها
وتسخير أمواله لدعمها وإبرازها على منابره الإعلامية المحترفة و بشكل عنيد، ما كان
له أن يكون لولا رضا الراعي الأمريكي صاحب أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة على
أراضيها!!؟ وبالتالي يصبح دور قطر دوراً غير مشرفاً، بل تصبح قطر عبارة عن بنك
مالي غني لتمويل مخطط أمريكي صهيوني خبيث.
و قد يرى شخص بسيط تعود على جلد
الذات بأن في هذه التحليلات والتنبئات قدر كبير من الصحة، فالوضع الحالي في مصر
واليمن وليبيا لا يسر وليس كما تصوره هذا البسيط الساذج، بأن تنقلب هذه الدول بعد
زوال أنظمتها إلى جنات عدن، وإذا ادعينا الموضوعية فنحن نقول نعم وهذا كلام صحيح
ولكن وفي نفس الوقت هو نتيجة متوقعة لثورات لم تكتمل بعد، بل أنها مازالت تصارع
وتكابد كي تحقق مبتغاها.
وهنا يجب الإشارة بأن كون أن هناك
مؤامرات وأصابع خفية وراء كل ما يحدث هو أمر لا يهمنا في الحقيقة في هذا التحليل،
إذ أنه من الطبيعي أن يكون كذلك، فأمة حكمت العالم منفردة لقرون طويلة لابد أن
يشتغل على إضعافها المستمر أعدائها ومناهضيها، إذ أن مشروعها ورسالتها وأدبياتها
ومنظومتها الأخلاقية مختلفة تماماً بل هي على النقيض في أحيان كثيرة.
ما يهمنا هنا هو الشعوب، فالأصابع
الخفية حاولت زرع الطائفية فهل تبنتها قيادات الثورة!؟ والأصابع الخفية مازالت
تستفز الشعوب الثائرة بكل ما أوتيت من أساليب قذرة لجره نحو العنف والاقتتال الداخلي
فهل انساقت هذه الشعوب بغالبيتها نحو ذلك وهل تبنت قياداتها أسلوباً للتعبير
والتغيير غير السلمية!؟ والأصابع الخفية أعطت قيادات الشارع منابر إعلامية مهمة إن
لم تكن الأهم في عالمنا العربي فكيف استخدمها هؤلاء، ألم يصروا عبرها على الوحدة
الوطنية ونبذ الطائفية وتبنى السلمية في تسجيل اعتراضهم على الأنظمة القائمة!؟ ألم
يرفضوا كل أشكال امتهان كرامة الإنسان وحقوقه!؟ ألم يفضحوا أشكال الفساد المتعددة
و على أعلى مستويات في دولهم لا يخافون في ذلك
لومة لائم!؟
لقد استحقت الشعوب العربية حتى الآن
كل الاحترام والتقدير على مشوارها الثوري الذي لم ينتهي بعد، والتي أثبتت خلالها
مدى تحضرها وخوفها من الدم الحرام وحرصها على الأرواح والممتلكاتن وحرصها الأكبر
على تقديم صورة حضارية مشرقة تكون نبراس للعالم أجمع. ونحن نوقن بأن ثورات الشعوب
تأخذ سنوات وسنوات كي تتبلور الأخلاقيات التي تنادي بها وتصبح واقعاً معاشاً عبر
القانون.
ولن نكترث للرعاع الذين انقلبوا على
الثورة والثوار في بعض البلدان، فهذا حال الثورات، يقوم بها الصفوة القليلة دائماً
في أي مجتمع إنساني. مضحين بأنفسهم وما يملكون، واضعين نصب أعينهم مصلحة أوطانهم
وشعوبهم.