المتتبع لحال الأمة وبالذات القسم العربي منها يلحظ تزايداَ متسارعاً في كم الصفعات واللكمات تجاه معتقداتها وثوابتها و ثقافتها بشكل عام، حتى نالت هذه اللكمات من وجودها الجغرافي، للدرجة التي جعلت البعض من قادة الرئي ومن أصحاب الفكر والنقد والتحليل عندنا حائرين وعاجزين عن الجزم في فهم ما يحدث.
رغم
أن ما يحدث يمكن تلخيصه في اعتقادي على أنه حكم الشركات العملاقة لجموع البشر وتسخيرهم
لصالحها وبشكل يبدو طوعياً، عبر توظيف المعلوماتية بكل أشكالها ووسائطها وموادها
كي تختصر الجغرافيا مهما كانت شاسعة وتضع الكل في نفس البوتقة وتحت سقف موحد من المفاهيم
والأخلاقيات والقيم، وهو بالطبع سقف القوي المسيطر. مما يجعل هذا التقارب الحميم بين
الأفراد في هذا العالم الافتراضي تقارباً مزيفاً لمن يعتبر منظومته الثقافية هي الأصلح
والأفضل، بالنسبة له على الأقل، بينما عامة الخلق تسعى للانضمام لهذا المجموع
العالمي ملبية بذلك ثاني اهتمام عند الإنسان في مثلث "ماسلو" لترتيب الحاجات
الإنسانية وهو اهتمام الإنسان بانتمائه إلى الجموع.
وكي يتحقق لهذا الغازي المتوحش ما يريد من توحيد لقيم العالم أجمع يستخدم المعلوماتية نفسها لضرب وإفساد المنظومات الأخلاقية الخاصة لكل شعب على حدة بأسلوب يمكن توصيفه بأنه الأذكى والأكثر خبثا.
وكي يتحقق لهذا الغازي المتوحش ما يريد من توحيد لقيم العالم أجمع يستخدم المعلوماتية نفسها لضرب وإفساد المنظومات الأخلاقية الخاصة لكل شعب على حدة بأسلوب يمكن توصيفه بأنه الأذكى والأكثر خبثا.
يمكن
وصف "منظومتنا الثقافية" بأنها المسطرة والمعيار الذي من خلاله نصف
الأشياء والأحداث وموقفنا منها، ونعمل على
تحكيمها لكل عارض يعترضنا كي نعرف السليم من الخبيث والزبد الغثاء مما ينفع
الناس ويمكث في الأرض. يدخل في هذا ما تستقبله أدمغتنا ليل نهار من معلومات ومواد
إعلامية برسائلها المختلفة، وهو هائل وكثيف، على أن جزءً غير بسيط من هذه المواد ليست
معلومات مجردة وإنما تحمل معها أيضاَ تقييماً وحكما أخلاقياً، يتبع في عقيدته
منظومة قيمية ليست بالضرورة متفقة مع منظومتنا، بل قد تكون على النقيض تماما معها.
وما يزيد الأمر سوءً انخداع بعض قادة الرأي عندنا بفخ مفاده أن هذه المنظومة
الغازية هي منظومة قيم تخص الإنسانية جمعاء وكأنها منبثقة من تجارب أمم وشعوب
مختلفة الأعراق والألوان، تم إجماعهم وتوافقهم عليها، وليست كما هو مثبت بأن أصحاب
المنظومة الجديدة استغلوا تقدمهم في العلوم بأشكالها وتصنيفاتها المتنوعة مقابل
تأخر تلك الشعوب و ضعف مرجعياتهم الثقافية -في غالبيتهم- مما سيؤثر سلباً في دفاعهم
عنها وبالتالي تبني المنظومة الجديدة بالإكراه، فهي هنا ليست محل إجماع من الكل أو
حتى الغالبية عبر الاختيار الحر، مما يجعل معه عدم إمكانية أن يطلق عليها منظومة
القيم الإنسانية كما هو حاصل الآن، وكأن عداها -وبالنتيجة ما يعارضها- هو غير
إنساني.
وحين
يرتكب قادة الرأي عندنا هذا الجرم ويتبنون المنظومة الأخلاقية المعولمة في أحكامهم
ومواقفهم من الأمور والمستجد منها يصبح العالم بأسلوب معيشته الحالي بالنسبة للفرد
منا عالماَ غريباً عنه ولا تنتمي قيمه وأخلاقياته الجديدة إلى منظومته الثقافية،
والتي تشكل مخزونه في اللاوعيه، مما يزيد وحشته داخل وطنه بل حتى داخل بيته
بازدياد الانسياب السريع لهذه المواد الجديدة الغازية لإدراكه.
الخطورة
تصبح أكبر على الجيل الناشئ والذي مازالت قناعاته تتشكل ولم تصل بعد إلى منطقة
الاستقرار في دماغه. ومكمن الخطورة هو في هذا التسرب السريع والعنيد الوقح لهذه
المواد المثقلة بالمعلومات والقيم والأحكام والأخلاقيات عبر رسائل محكمة الصنع،
شديدة الجاذبية وقوية التأثيرـ مستخدمةَ وسائط لا تورث صاحبها إلا الإدمان والكسل
الدماغي والتلقي السلبي في غالبه، تسرباً لا يستأذن أحدا وليس بإمكان حراس البوابة
إيقافه أو حتى فرض شروطا عليه قبل الدخول.
هذا
بالتالي يجعلنا نخشى على هذا النشأ الذي لم تكتمل أدمغته في التشكل بعد، وهنا يجب
الإقرار بأن عملية التعليم لأبنائنا في عصرنا الحالي هي عملاً معقداً ومركبا -وهكذا
لابد أ ن يكون- يحتاج إلى التخصص والاحتراف في علوم التربية وعلوم النفس
والمجتمعات والإعلام، وهو ما لا يقوى عليه كل الآباء في مجتمعات ترتفع فيها نسبة
الأمية إلى مستويات مخجلة، عاديك عن التخصص والاحتراف.
لذلك
كان لزاما على قادة الأمة وعلمائها أن تصنع كل ما يمكنها كي توجد المعالجة المثلى
لهذا النوع من المشاكل والأزمات، والكفيلة بتهديد هوية الأمة، كي لا يزداد جفاء
الفصام بين الفرد وما يؤمن به وبين البوتقة الذي أصبح مكرها للعيش في تخومها، حتى
ولو ظهر ذلك الإكراه للبعض على انه خيار طوعي.
ما يزيد الصعوبة عليهم "قادة الرأي أقصد"هو انهم لا يملكون النفوذ والسلطة كي يجعلوا منظومتهم الثقافية هي السارية والفاعلة في حياة شعوبهم ولو بشكل قسري. ففي زمن الحريات شبه المطلقة لابد لك أن تجاهد كثيرا كي تسوق أفكارك ومعتقداتك للوصول الى الدرجة التي تصبح فيها هذه المعتقدات جاذبة للفرد، ومقنعة له تحت مربض عمليات التفكير والتحليل والتمحيص العقلية عنده، في زمن أوهم أنبيائه ومبشروه البشرية جمعاء بأنه زمن العلم والعقل والمنطق ولا شيء آخر.
ما يزيد الصعوبة عليهم "قادة الرأي أقصد"هو انهم لا يملكون النفوذ والسلطة كي يجعلوا منظومتهم الثقافية هي السارية والفاعلة في حياة شعوبهم ولو بشكل قسري. ففي زمن الحريات شبه المطلقة لابد لك أن تجاهد كثيرا كي تسوق أفكارك ومعتقداتك للوصول الى الدرجة التي تصبح فيها هذه المعتقدات جاذبة للفرد، ومقنعة له تحت مربض عمليات التفكير والتحليل والتمحيص العقلية عنده، في زمن أوهم أنبيائه ومبشروه البشرية جمعاء بأنه زمن العلم والعقل والمنطق ولا شيء آخر.
من
بين الحلول التي يمكن تبنيها هو فرض مناهج جديدة على طلاب المراحل الأولى
والمتوسطة تشرح لهم كيفية التعامل مع الرسائل الإعلامية ومحتواها وكيفية فهمها
وتحليلها وتناول حتى الرسائل المبطنة منها، تعليمه كيف يكون ناقدا للمحتوى وأن لا
يكون إسفنجة يمتص كل ما يأتيه ثم يتبناه.
وهنا
تجدر الإشارة بأن مثل هذه المناهج قد سبقتنا لها الدول المتقدمة وأسمتها "
الإعلام التربوي" أو "ألف باء الإعلام" ويمكن الاستعانة بها في
البداية كي نرفع درجة الوعي و احترافية النقد عند أبنائنا لكل ما يعرض لهم من مواد
ورسائل إعلامية.
من
بين تلك الخطوات العلاجية أيضاً هو الاعتراف بمسئولية مفكرينا وعلمائنا في إعادة صياغة
مصطلحاتنا ومفاهيمنا بأسلوب أقل شمولية وأكثر دقة في تحديد المعنى والوظيقة وأبعد
عمقا في تناول الإشكالات المعترضة. فمثلا لم يعد مصطلح الجهاد مصطلحاً سهلا في
إطلاقه وتعليم ما يحتويه للنشأ كما كان سهلا في السابق، فالآن وفي خضم المنظومة
القيمية المضادة التي تدعي إنسانيتها الشديدة والمرهفة أصبح من الضروري بذل جهد
أكبر في تعليم معنى هذا المصطلح وتوابعه بتبيان مثلاً متى يكون القتال جهاداَ
وعملاَ يتربع على قمة سنام الإسلام، ومتى يكون قتلا وسفكا للدماء يوجب غضب الرب
والخلود في جهنم، أي أصبح حتما على المربي والمعلم أن يخوض في تفاصيل المصطلح ومتعلقاته
من شروط وضوابط. الأمر نفسه في تناول حدود
الإسلام، كحد السرقة مثلاً وقطع يد السارق.
كما أصبح من الإلزامي عليهم مراجعة موروثنا
التاريخي وتنقيته من النصوص الضعيفة والتي جاء بعضها مشوها لصورة الإسلام الناصعة،
أو منافياً للعقل والمنطق السليم، كذلك إعادة النظر في التراث الفقهي الاجتهادي
والذي جاء بعضه مناسبا لظرف زمانه ومكانه ولا يناسب زماننا الحالي والثورات
التكنولوجية الهائلة التي حدثت ومازالت تحدث فيه بشكل متسارع تغيرت بموجبها أشكال
وأساليب حياة الفرد مما يغير المعلومات المحيطة والمغذية لأي عملية إفتاء و اجتهاد
جديد.
بالنظر
إلى ما فات نرى كم
أصبحت هذه التركيبة المتداخلة والمعقدة في عملية التعليم للنشأ أمرا مجهدا وفي نفس
الوقت إلزاميا على المعلم والمربي إحاطته بها كي يكون كفؤاً وأكثر احترافية لمهنة
التعليم في هذا الزمن الصعب والمتغير.
أيضا
أرى ضرورة تفعيل دور المجتمع المدني ومؤسساته المختلفة ليقوم بهذه الوظائف المذكورة
سابقا، وعدم انتظار حكومات أنظمتنا العربية كي تقوم هي بذلك، بالذات في ظل ضعف
ثقتنا بغالبيتها، بل انعدامها أحيانا.
هذا
سيكون أفضل بكثير من ان نجبر على التغيير من قبل هذه الأنظمة والمستأجرة من
أعدائنا كي تفرض هي علينا ما لم يستطيعوا هم فرضه بالقوة أثناء احتلالهم
لجغرافيتنا. وهو ما بدأ يحدث فعلا وبالإكراه من هذه الأنظمة لشعوبها، ففي مصر مثلا
نجد في هذه الأيام وبعد الإنتكاسة التي أصيبت بها ثورة 25 يناير النبيلة لم تتوقف
نداءات التجديد والإصلاح للخطاب الديني والمنتوج الفقهي وللمؤسسات الدينية ذاتها، كان
ذلك على لسان رأس الدولة بشخصه، ثم توالت هذه النداءات عبر شخصيات تعمل في المجال
العلمي والديني بمناصب مختلفة في الدولة وفي القطاع المدني، ولكنها للأسف نداءات
مشبوهة بل خبيثة ومن أشخاص أكثر خبثا قد يصل مستوى خطيئة البعض منهم حد العمالة.
كذلك مثال آخر في الانقلاب القيمي والمصطلحي والسلوكي الذي يحدث الآن في السعودية بشكل إجباري متعمد وممنهج من سلطاتها ونظامها الرسمي يجعل في اعتقادي علمائها وقادة الرئي فيها يندمون على تجاهلهم المستمر سابقا لنداءات البدأ بالإصلاح الديني المأصل والذي نادى به علماء كثر ومفكرين كانوا يرون ضرورته خصوصا بأن البلاد كانت تتبنى منهجا دينيا متشددا وفتاوى اجتهادية قديمة للسلف لا تتوافق مع عصرنا.
وفي هذا المقام لابد من ذكر أحد أهم المشاريع التوعوية في عالمنا العربي والإسلامي وهو مشروع "مؤسسة رؤية للفكر" والذي قام من رحم الثورة السورية وعلى أكتاف علماء وإعلاميين مجاهدين سوريين شاركوا فيها وتبين لهم أثناء ذلك بأن مشاكل فكرية جسيمة حالت دون نجاح ثورتهم بالشكل المطلوب مما أدى الى انحرافات بينة في مساراتها، الأمر الذي دفعهم إلى تبني دور يسبق الجهاد البدني بمحاولة تجديد الفكر الإسلامي بالشكل الذي يرجعه فاعلا على أرض الواقع، ليس فقط، من أجل إنجاح الثورة السورية وتصحيح انحرافاتها، بل أيضا من أجل كل ثورات التحرر والإصلاح العربي والإسلامي.
كذلك مثال آخر في الانقلاب القيمي والمصطلحي والسلوكي الذي يحدث الآن في السعودية بشكل إجباري متعمد وممنهج من سلطاتها ونظامها الرسمي يجعل في اعتقادي علمائها وقادة الرئي فيها يندمون على تجاهلهم المستمر سابقا لنداءات البدأ بالإصلاح الديني المأصل والذي نادى به علماء كثر ومفكرين كانوا يرون ضرورته خصوصا بأن البلاد كانت تتبنى منهجا دينيا متشددا وفتاوى اجتهادية قديمة للسلف لا تتوافق مع عصرنا.
وفي هذا المقام لابد من ذكر أحد أهم المشاريع التوعوية في عالمنا العربي والإسلامي وهو مشروع "مؤسسة رؤية للفكر" والذي قام من رحم الثورة السورية وعلى أكتاف علماء وإعلاميين مجاهدين سوريين شاركوا فيها وتبين لهم أثناء ذلك بأن مشاكل فكرية جسيمة حالت دون نجاح ثورتهم بالشكل المطلوب مما أدى الى انحرافات بينة في مساراتها، الأمر الذي دفعهم إلى تبني دور يسبق الجهاد البدني بمحاولة تجديد الفكر الإسلامي بالشكل الذي يرجعه فاعلا على أرض الواقع، ليس فقط، من أجل إنجاح الثورة السورية وتصحيح انحرافاتها، بل أيضا من أجل كل ثورات التحرر والإصلاح العربي والإسلامي.
وليس
مبالغة أن نقول أن في استعادة الأمة دورها الريادي في تصحيح مسار القيم والمصطلحات
سيكون له كبير الأثر الإيجابي على البشرية جمعاء والتي تعيش فصاما نكداً بين
فطرتها وبين أسلوب الحياة الإجباري الحالي، فتكون الأمة بذلك رحمةً حقيقيةً
للعالمين.
|
|||||